وقت القراءة: 6 دقائق/دقيقة (1137 كلمات/كلمة)

السلفية من منهج النبوة إلى غياب البصيرة

WhatsApp-Image-2025-06-02-at-9.26.01-AM

السلفية كلمة عظيمة تنبض بتاريخ ناصع من اتباع خير القرون، والسير على خطى الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان. وهي في أصلها ليست جماعة، ولا حزبًا، ولا تنظيمًا، بل منهج لفهم الدين على النقاء الأول، والنبع الصافي الذي بلّغه النبي ﷺ وطبّقه الجيل الذي زكّاه الله في كتابه، وامتدحه رسول الله ﷺ في سنّته.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:

> "يجب اتباع ما أنزله الله في كتابه، وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ما يُقال إنه مذهب رجل من الأمة"
(مجموع الفتاوى، جـ 19، صـ 191).
سلفيات متنازعة لا يجمعها منهج

غير أن هذا المعنى الأصيل بات اليوم عرضة للتشويه، لا عن عمد غالبًا، بل نتيجة لاختلاف الفهوم، وتباين المدارك، وتسلّل التقديس للأشخاص، وغياب الرؤية الجامعة في النظر للواقع وتنزيل النصوص عليه. فصارت السلفية عند بعض الأتباع شعارًا مفرغًا من روحه، وعند آخرين سلاحًا في الخصومة، لا يترددون في استخدامه للتخوين والتفسيق. وتحولت الفكرة الواحدة إلى طوائف متناحرة، كل منها تدّعي الصفاء، وتقصي غيرها بلا بيّنة.

وقد حذّر ابن القيم رحمه الله من هذا المسلك حين قال:

> "كل من أعرض عن الحق الواضح الجلي، اتبع أهواءه، وإن زعم أنه من أهل العلم"
(مفتاح دار السعادة، جـ 1، صـ 283).

تقديس الأشخاص ومأزق المرجعية

ومما زاد المشهد اضطرابًا أن كثيرًا من الأتباع بالغوا في تعظيم بعض المشايخ، حتى غدا الشيخ في نظرهم مرجع الدين الذي لا يُخالف، ولا يُراجع، ولا يُسأل. فتجد الشاب لا يعرف من العلم إلا صوتًا واحدًا، ولا يسمع إلا من مصدر واحد، فإذا سمع غيره نفَر منه، وظن أن الإسلام تبدّل أو تلوّن. هذه النظرة الضيقة لا تعبر عن السلفية، بل تعكس جمودًا وخوفًا من الخروج عن دائرة المألوف.

ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:

> "لا يجوز لمسلم أن يقلد أحدًا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(الاستقامة، جـ 1، صـ 73).

اجتهادات تتحول إلى نصوص مقدسة

والمأساة الحقيقية لهذا الواقع أن فكر الشيخ يتحوّل عند بعض أتباعه إلى الإسلام ذاته، وأن اجتهاده يصبح هو الشريعة، وقصور فهمه يُعامل كنص مقدّس لا يُردّ ولا يُناقش. وهكذا تتسرب الأخطاء إلى عقول الناس باسم "المنهج"، وتُقدّم الآراء الشخصية على أنها مراد الله ورسوله، فيغيب التمييز بين الوحي واجتهاد البشر.

وقد نبّه ابن القيم رحمه الله إلى هذا الخطر بقوله:

> "الاجتهاد إذا خالف الدليل الصحيح كان خطأً يجب رده، ولا يجوز العمل به ولا نسبته إلى الشريعة"
(إعلام الموقعين، جـ 4، صـ 205).


منبر الدعوة بين النبوة والارتجال

ومن أوضح صور هذا الخلل ما فعله الشيخ مصطفى العدوي حين ظهر في مقطع مصوّر يخاطب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، داعيًا إياه إلى الإسلام، مستخدمًا نفس ألفاظ رسالة النبي ﷺ إلى هرقل عظيم الروم، فقال: "رسالة إلى ترامب عظيم أمريكا، سلامٌ على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين".

ولا شك أن النبي ﷺ قد وجّه هذه الرسالة بالفعل، كما في الصحيح:

> "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين"
(صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث رقم 7).



لكن الفارق شاسع بين المقامين: فالنبي ﷺ أرسلها وهو نبي يُهاب، تمثل دولته قوة متماسكة بعد صلح الحديبية، بينما الرسالة المعاصرة تأتي من فردٍ أعزل، في مقطع بلا ترجمة، ولا ضمان لوصوله، ولا أثره.
بين الحماسة الدينية وغفلة فقه الواقع

قد يبدو هذا الفعل للوهلة الأولى غيرةً على الدين، لكنه في حقيقته غفلةٌ عن واجب الوقت، وتجاهلٌ لأدنى شروط الحكمة في الدعوة. إن الدعوة ليست مجرد كلمات تُلقى، بل مسؤولية تُبنى على فقه الحال، ومعرفة المآل. وقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن الدعوة تختلف باختلاف أحوال المدعو وزمانه ومقامه، فقال:

> "ليس ما يُناسب مخاطبة الشخص في حالٍ، يُناسب غيره في حال أخرى"
(اقتضاء الصراط المستقيم، جـ 1، صـ 83).

فالشيخ هنا تجاهل الواقع الذي يعيش فيه، وتعامى عن أن ترامب ـ الذي دعاه للإسلام ـ هو ذاته الذي احتفى به حكام الخليج، واستقبلوه بالبسط الحمراء والانبطاح السياسي، بينما كانت قنابله تُسقط على رؤوس الأطفال في غزة.

وقد ذكر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في تقريره عام 2019 أن

> "العلاقات الخليجية الأمريكية في عهد ترامب اتسمت بتبعية سياسية واقتصادية غير مسبوقة، خصوصًا مع دول مثل السعودية والإمارات"
(تقرير: Gulf-American Relations in the Trump Era, The Washington Institute,

هل يُدعى من يقتلنا؟

فهل يُعقل أن يُدعى ترامب للإسلام، في وقتٍ تهدم فيه طائراته بيوت المسلمين؟! أليس من أبجديات فقه الدعوة أن تُراعى الموازين، وتُقدّر العواقب، ويُعرف حال المدعو وموقفه من الإسلام وأهله؟ أليس من العبث أن نوجّه خطاب الرحمة لمن يمارس سياسة القهر، ونتغافل عن وصف العداء، وهو رأس في التحريض والدمار؟

وقد أصّل الإمام الشاطبي هذا المعنى بوضوح، فقال:

> "الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فكل وسيلة لمصلحة راجحة مشروعة، وكل وسيلة لمفسدة راجحة ممنوعة"
(الموافقات، جـ 2، صـ 367).



وأكد هذا المعنى أيضًا المؤرخ ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث عن صلح الحديبية، فذكر أن النبي ﷺ لم يبعث رسالته إلى هرقل إلا بعدما عزَّ سلطان الدولة الإسلامية، وبدأت المهابة تتشكل حولها، فقال:

> "وكان صلح الحديبية فتحًا عظيما، وبه أقبل الناس إلى الإسلام أفواجًا لما رأوا من قوة المسلمين وهيبتهم"
(البداية والنهاية،
جـ 4، ص249ـ

هل هذا مقام الدعوة أم موطن الإنكار؟

بل إن الأمر لا يتوقف عند خطأ التقدير، بل يتجاوزه إلى انقلاب في الموازين؛ إذ كيف يُخاطَب ترامب خطابًا دعويًا لطيفًا، في الوقت الذي يُعلن فيه دعمه الكامل للاحتلال الصهيوني، وتُنفّذ سياساته في قتل النساء والأطفال؟! أليس الأجدر أن يُسمّى عدوًا محاربًا، وأن يُنكر فعله لا أن يُخاطب بلغة السلام والهدى؟

وكان الأولى بالشيخ أن يقول: "ترامب عدو محارب، يقتل أهلنا في غزة، ويدعم من يحتل مسرى النبي ﷺ"، لا أن يُقلّده خطاب النبوة في غير موضعه. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

> "إنكار المنكر باللسان واجب عند القدرة عليه، ولا يجوز السكوت عن الظالم، ولا التواطؤ معه، فإن في ذلك تضييعًا للدين وخذلانًا للمستضعفين"
(منهاج السنة النبوية، جـ 5، صـ 130).

مصر بين الحكم الوضعي وتجميل الصورة

ثم إن الشيخ ذاته يعيش في بلد تُحكم بقوانين وضعية، ويُضيَّق فيه على الدعوة، ويُحارب فيه القرآن، ويُقمع فيه العلماء والدعاة، بل يُمنع فيها إمام المسجد من قول كلمة حق، ويُعتقل من يرفع صوته بنصيحة. فهل من الحكمة أن يتجاهل هذا الواقع، ويتوجّه بدعوة سلمية إلى رئيس دولة تُغذّي هذا القمع وتدعمه؟ أليس أولى أن يبدأ بمن حوله، ويُنكر الظلم الذي يقع في أرضه؟

وقد أشار الدكتور محمد رضا رمضان البنداري إلى خطورة هذه الانتقائية في الخطاب الدعوي، فقال:

> "إن غياب الدولة الإسلامية، وعدم استحضار المقاصد في الخطاب الدعوي، أدى إلى اختزال الإسلام في صورة جزئية مشوهة، يُخاطَب بها خصوم لا يحترمون الحق، ولا يملكون استعدادًا لقبوله"
(مجلة كلية أصول الدين والدعوة بأسيوط – جامعة الأزهر، العدد 39، الجزء 2، 2021، صـ 1575
.
خاتمة: أين العلماء الربانيون؟

إن أزمة الخطاب الديني المعاصر لا تكمن في قلة الحماسة، بل في غياب البصيرة، وفي فقدان العلماء الذين يجمعون بين فقه النص وفقه الواقع، بين العلم والعمل، بين هدي النبوة ونبض الناس. لقد تحوّلت كثير من المنابر إلى أصوات منعزلة عن الواقع، تُخاطب طغاة لا يسمعون، وتُغفل شعوبًا تنتظر من يوقظها.

وقد لخّص ابن القيم رحمه الله صفات العالم الحقّ في عبارة جامعة، فقال:

> "العالِم الرباني هو الذي يعلّم الناس مراتب العلم، ويبدأ بصغاره قبل كباره، ويجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، ويأمر بالمعروف في نفسه قبل أن يأمر به غيره"
(مدارج السالكين، جـ 2، صـ 366).



فمتى يعود هؤلاء؟ ومتى ينهض العلماء الذين يزنون الكلام بميزان الوحي والعقل، ويعرفون متى يُدعى الطغاة، ومتى يُفضحون، ومتى تُرفع الرايات، ومتى تُغمد؟

أيقونة الثورة بين المجد والهدم سردية جيلٍ حالمٍ...
 

تعليقات

لا تعليق على هذه المشاركة بعد. كن أول من يعلق.